سورة العنكبوت - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} بمَا صدرَ عنِّي وعنكُم {يَعْلَمُ مَا فِى السموات والارض} أي من الأُمورِ التي من جُمْلتِها شأنِي وشأنُكم فهو تقريرٌ لما قبلَه من كفايتِه تعالى شَهيداً {والذين ءامَنُواْ بالباطل} وهو ما يُعبد من دُونِ الله تعالَى {وَكَفَرُواْ بالله} مع تعاضُد موجباتِ الإيمانِ به {أولئك هُمُ الخاسرون} المغبُونون في صفقتِهم حيثُ اشترَوا الكفرَ بالإيمانِ بأنْ ضيَّعوا الفطرةَ الأصليَّةَ والأدلَّةَ السمعيَّةَ الموجبةَ للإيمانِ، والآيةُ من قبيلِ المُجادلةِ بالتي هي أحسنُ حيثُ لم يُصرِّحْ بنسبةِ الإيمانِ بالباطلِ والكفرِ بالله والخسرانِ إليهم بل ذُكر على منهاجِ الإبهامِ كما في قولِه تعالى: {وَأَنَا أَو إياكم لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ} {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} على طريقةِ الاستهزاءِ بقولِهم: {متى هذا الوعد} وقولِهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ} ونحوِ ذلكَ {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} قد ضربَهُ الله تعالى لعذابِهم وبيَّنه في اللَّوحِ {لَّجَاءهُمُ العذاب} المعيَّنُ لهم حسبَما استعجلُوا له. قيل: المرادُ بالأجلِ يومُ القيامةِ لما رُوي أنَّه تعالى وعدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يُعذِّبَ قومَه بعذابِ الاستئصال وأنْ يؤخِّر عذابَهم إلى يومِ القيامةِ، وقيل: يومُ بدرٍ وقيل: وقتُ فنائِهم بآجالِهم وفيه بُعدٌ ظاهرٌ لِمَا أنَّهم ما كانُوا يُوعدون بفنائِهم الطبيعيِّ ولا كانُوا يستعجلونَ به {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} جملةٌ مستأنفةٌ مبنيَّنةٌ لما أُشير إليهِ في الجُملةِ السَّابقةِ من مجيءِ العذابِ عند محلِّ الأجلِ أي وبالله ليأتينَّهم العذابُ الذي عُيِّن لهم عند حُلولِ الأجلِ {بَغْتَةً} أي فجأةً {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي بإتيانِه، ولعلَّ المرادَ بإتيانِه كذلك أنَّه لا يؤتيهم بطريقِ التَّعجيلِ عند استعجالِهم والإجابةِ إلى مسؤولِهم فإنَّ ذلك إتيانٌ برأيهم وشعورِهم لا أنَّه يأتيهم وهم غارُّون آمِنُون لا يخطرونَه بالبالِ كدأبِ بعضِ العُقوباتِ النازلةِ على بعضِ الأممِ بياتاً وهم نائمونَ أو ضُحى وهم يلعبُون لما أنَّ إتيانَ عذابِ الآخرةِ وعذابِ يومِ بدرٍ ليس من هذا القبيلِ.
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} استئنافٌ مسوقٌ لغايةِ تجهيلِهم ورَكَاكةِ رأيِهم، وفيه دلالةٌ على أنَّ ما استعجلوه عذابُ الآخرةِ أي يستعجلونك بالعذابِ والحال أنَّ محلَّ العذابِ الذي لا عذابَ فوقَه محيطٌ بهم كأنَّه قيل: يستعجلونك بالعذابِ وإنَّ العذابَ لمحيطٌ بهم، وإنَّما جيء بالجملةِ الاسميةِ دلالةً على تحقُّقِ الإحاطةِ واستمرارِها أو تنزيلاً لحالِ السَّببِ منزلةَ حالِ المسبَّبِ فإنَّ الكفرَ والمعاصيَ الموجبةَ لدخولِ جهنَّم محيطةٌ بهم، وقيل: إنَّ الكفرَ والمعاصيَ هي النَّار في الحقيقةِ لكنَّها ظهرتْ في هذهِ النَّشأةِ بهذه الصُّورةِ وقد مرَّ تفصيلُه في سورةِ الأعرافِ الآية 8 عند قولِه تعالى: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} ولامُ الكافرينَ إمَّا للعهدِ ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ المضمرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكمِ، أو للجنسِ وهم داخلون فيه دُخولاً أولياً.


{يَوْمَ يغشاهم العذاب} ظرفٌ لمضمرٍ قد طُوي ذكرُه إيذاناً بغايةِ كثرتِه وفظاعتِه كأنَّه قيلَ: يومَ يغشاهُم العذابُ الذي أشير إليه بإحاطةِ جهنَّم بهم يكونُ من الأحوالِ والأهوالِ ما لا يفي به المقالُ، وقيل: ظرفٌ للإحاطةِ {مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي من جميعِ جهاتِهم {وَيَقُولُ} أي الله عزَّ وجلَّ ويعضدُه القِراءةُ بنونِ العظمةِ، أو بعضُ ملائكتِه بأمرِه {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاءَ ما كنتُم تعملونه في الدُّنيا على الاستمرارِ من السيئاتِ التي من جُملتها الاستعجالُ بالعذابِ.
{يَا عِبَادِى الذين آمَنُواْ} خطابُ تشريفٍ لبعضِ المؤمنينَ الذين لا يتمكَّنُون من إقامةِ أمورِ الدِّين كما ينبغِي لممانعةٍ من جهةِ الكَفَرةِ وإرشادٌ لهم إلى الطَّريقِ الأسلمِ {إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فاعبدون} أي إذا لم يتسهَّل لكُم العبادةُ في بلدٍ ولم يتيسَّر لكُم إظهارُ دينِكم فهاجِرُوا إلى حيثُ يتسنَّى لكم ذلكَ، وعنه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «من فرَّ بدينِه من أرضٍ إلى أرضٍ ولو كان شبراً استوجبَ الجنَّة وكان رفيقَ إبراهيمَ ومحمَّدٍ عليهما السَّلامُ». والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ إذِ المعنى إنَّ أرضي واسعةٌ إنْ لم تُخلصوا العبادةَ لي في أرضٍ فأخلِصُوها في غيرِها ثم حُذفَ الشَّرطُ وعُوِّض عنه تقديمُ المفعولِ مع إفادةِ تقديمِه معنى الاختصاصِ والإخلاصِ.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} جملةٌ مستأنفةٌ جِيءَ بها حثاً على المُسارعة في الامتثالِ بالأمرِ أي كلُّ نفسٍ من النُّفوسِ واجدةٌ مرارةَ الموتِ وكربَه فراجعةٌ إلى حُكمِنا وجَزَائِنا بحسبِ أعمالِها، فمَنْ كانت هَذه عاقبتَهُ فليس له بدٌّ من التَّزودِ والاستعدادِ لها. وقرئ: {يَرجعون} {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوّئَنَّهُمْ} لننزلنَّهم {مّنَ الجنة غُرَفَاً} أي عَلاليَ وهو مفعولٌ ثانٍ للتَّبوئةِ. وقرئ: {لنُثوينَّهم} من الثُّواء بمعنى الإقامةِ فانتصابُ غُرفاً حينئذٍ إمَّا بإجرائِه مُجرى لنُنزلنَّهم أو بنزعِ الخافضِ أو بتشبيهِ الظَّرفِ الموَّقتِ بالمُبهم كما في قولِه تعالى: {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} صفةٌ لغرفاً {خالدين فِيهَا} أي في الغُرَفِ أو في الجنَّة {نِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي الأعمالُ الصَّالحةُ والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبله عليهِ. وقرئ: {فنعَم}.


{الذين صَبَرُواْ} إمَّا صفةٌ للعاملينَ أو نُصبَ على المدحِ أي صبرُوا على أذيَّةِ المشركينَ وشدائدِ المهاجرةِ وغيرِ ذلكَ من المحنِ والمشاقِّ {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي ولم يتوكَّلوا فيما يأتُون ويذرونَ إلا عَلى الله تعالى.
{وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} رُوي أنَّ النبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا أمرَ المُؤمنينَ الذين كانُوا بمكَّةَ بالمهاجرةِ إلى المدينةِ قالُوا: كيفَ نقدُم بلدةً ليس لنا فيها معيشةٌ فنزلتْ أي وكم من دابةٍ لا تطيقُ حملَ رزقِها لضعفِها أو لا ندخرُه وإنَّما تُصبح ولا معيشةَ عندها {الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} ثمَّ إنَّها مع ضعفِها وتوكُّلِها وإيَّاكم مع قوَّتِكم واجتهادِكم سواء في أنَّه لا يرزقُها وإيَّاكم إلا الله تعالى لأنَّ رزقَ الكلِّ بأسبابٍ هو المسبِّبُ لها وحدَهُ فلا تخافُوا الفقرَ بالمُهاجرةِ {وَهُوَ السميع} المبالغُ في السَّمعِ فيسمعُ قولَكم هذا {العليم} المبالغُ في العلمِ فيعلمُ ضمائرَكم. {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} أي أهلَ مكَّةَ {مِنْ خلاق السموات والارض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله} إذ لا سبيلَ لهم إلى إنكارِه ولا إلى التَّردُدِ فيه {فأنى يُؤْفَكُونَ} إنكارٌ واستبعادٌ من جهتِه تعالى لتركِهم العملَ بموجبِه أي فكيفَ يُصرفون عن الإقرارِ بتفرُّدِه تعالى في الإلهية مع إقرارِهم بتفرُّدِه تعالى فيما ذُكر من الخلقِ والتَّسخيرِ.
{الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء} أنْ يبسطَه له {مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي يقدرُ لمن يشاءُ أنْ يقدرَ له منهم كائناً مَن كانَ على أنَّ الضَّميرَ مبهمٌ حسبَ إبهامِ مرجعِه، أو يقدرُ لمن يبسطه له على التَّعاقبِ {أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} قيعلم مَن يليقُ ببسطِ الرِّزقِ فيبسطُه له ومن يليقُ بقدْرِه له فيقدرُه له أو فيعلم أنَّ كلاًّ من البسطِ والقدرِ في أيِّ وقتٍ يُوافق الحكممةَ والمصلحةَ فيفعلُ كلاًّ منهما في وقتِه {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الارض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله} معترفينَ بأنَّه الموجدُ للممكناتِ بأسرِها أصولِها وفروعِها ثمَّ إنَّهم يُشركون به بعضَ مخلوقاتِه الذي لا يكادُ يُتوهَّمُ منه القدرةُ على شيءٍ أصلاً {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على أنْ جعلَ الحقَّ بحيثُ لا يجترىءُ المبطلون على جُحودِه وأنَّه أظهرَ حجَّتَك عليهم وقيل: على أنْ عصَمَك من هذهِ الضَّلالاتِ ولا يخفى بعدُه {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعملونَ بمُقتضى قولِهم هذا فيُشركون به سبحانَه أخسَّ مخلوقاتِه وقيل: لا يعقلونَ ما تُريد بتحميدِك عند مقالِهم ذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7